فصل: تفسير الآية رقم (282):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (279- 280):

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}
{فإن لم تفعلوا} أي لم تتركوا ما بقي من الربا بعد تحريمه {فأذنوا} قرئ بكسر الذال والمد على وزن آمنوا ومعناه: فأعلموا غيركم أنه حرب لله ورسوله وقرئ فأذنوا بفتح الذال مع القصر ومعناه فأعلموا أنتم وأيقنوا {بحرب من الله ورسوله}. قال ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب. قال أهل المعاني: حرب الله النار وحرب رسوله السيف واختلفوا في معنى هذه المحاربة فقيل المراد بها المبالغة في الوعيد والتهديد دون نفس الحرب، وقيل: بل المراد منه نفس الحرب وذلك أن من أصر على أكل الربا وعلم به الإمام قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة وإن كان آكل الربا ذا شوكة وصاحب عسكر حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية. قال ابن عباس: من كان مقيماً على أكل الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع أي تاب وإلاّ ضرب عنقه {وإن تبتم} أي إن تركتم أكل الربا ورجعتم عنه {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} يعني لا يظلمون أنتم الغريم بطلب زيادة على رأس المال. ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال نزلت هذه الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم بل نتوب إلى الله فإنه لا يدان لنا يعني لا قوة لنا بحرب الله ورسوله ورضوا برؤوس أموالهم. فشكا بنو المغيرة العسرة ومن كان عليه دين وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله عز وجل: {وإن كان ذو عسرة} يعني وإن كان الذي عليه الحق من غرمائكم معسراً والعسر نقيض اليسر وهو تعذر وجدان المال، وأعسر الرجل إذا أضاق ولم يجد ما يؤديه في دينه {فنظرة} أي فإمهال وتأخير {إلى ميسرة} أي إلى زمن اليسار وهو ضد الإعسار وهو جدان المال الذي يؤديه في دينه واختلفوا في حكم الآية وله الإنظار مختص بالربا أم هو عام في كل دين؟ على قولين: القول الأول وهو قول ابن عباس وشريح والضحاك والسدي إن الآية في الربا. وذكر عن شريح أن رجلاً خاصم رجلاً إليه فقضى عليه وأمر بحبسه فقال رجل: كان عند شريح انه معسر والله تعالى يقول في كتابه: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} فقال شريح إنما ذاك في الربا وإن الله تعالى قال في كتابه {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه. والقول الثاني وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين أن حكم الآية عام في كل دين على معسر واحتجوا بأن الله تعالى قال: {وإن كان ذو عسرة} ولم يقل ذا عسرة ليكون الحكم عاماً في جميع المعسرين {وأن تصدقوا خير لكم} يعني وإن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين فتتركوا رؤوس أموالكم للمعسر خير لكم، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به لأنه قد جرى ذكر المعسرين وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما {إن كنتم تعلمون} يعني أن التصدق خير لكم وأفضل لأن فيه الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى.
فصل في ثواب إنظار المعسر والوضع عنه وتشديد أمر الدين والأمر بقضائه:
(م) عن أبي قتادة أنه طلب غريماً له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر قال الله قال الله قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه».
(م) عن أبي اليسر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله».
(ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم تاجر يداين الناس فإن رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه به عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء» أخرجه أبو داود.
(خ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عز وجل عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله»،.
(ق) عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم، زاد في رواية وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».
(ق) عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى فقال: يا كعب قلت: لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه.
(ق) عن أبي هريرة قال: «كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنة فلم يجدوا إلاّ سناً فوقها فقال: أعطوه فقال: أوفيتني وفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خيركم أحسنكم قضاء» وفي رواية أنه أغلظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقضاه حتى هم به بعض أصحابه فقال: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم أمر له بأفضل من سنه».
(م) عن قتادة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت أن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلاّ الدين فإن جبريل قال لي ذلك» عن محمد بن جحش قال: «كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته ثم قال: سبحان الله ماذا نزل من التشديد فسكتنا وفزعنا. فلما كان من الغد سألته يا رسول الله: ما هذا التشديد الذي نزل فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه دينه» أخرجه النسائي.

.تفسير الآية رقم (281):

{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
قوله عز وجل: {واتقوا} أي وخافوا {يوماً ترجعون فيه إلى الله} قرئ بفتح التاء أي تصيرون فيه إلى الله وقرئ بضم التاء وفتح الجيم أي تردون فيه إلى الله {ثم توفى كل نفس ما كسبت} يعني من خير أو شر {وهم لا يظلمون} أي في ذلك اليوم. وفي هذه الآية وعد شديد وزجر عظيم قال ابن عباس: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال جبريل ضعها على رأس مائتين وثمانين من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً وقيل: تسع ليال وقيل سبعاً ومات صلى الله عليه وسلم لليلتين خلتا من ربيع الأول في يوم الاثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة. وروى الشعبي عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا.

.تفسير الآية رقم (282):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} قال ابن عباس لما حرم الربا أباح السلم وقال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه. وقوله: {إذا تداينتم} أي تعاملتم بالدين أو داين بعضكم بعضاً والتداين تفاعل من الدين يقال داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال بدين بعد قوله: {إذا تداينتم} لأن المداينة قد تطلق على المجازاة وعلى المعطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ويخلص أحد المعنين من الآخر. وقيل إنما قال بدين ليرجع الضمير إليه في قوله: {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين فلا يحسن النظم بذلك وقيل إنما ذكره تأكيداً {إلى أجل مسمى} يعني إلى مجدة معلومة الأول والآخر مثل السنة والشهر ولا يجوز إلى غير مدة معلومة كما لو قال إلى الحصاد أو نحوه والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محل الأجل بخلاف القرض فإنه لا يلزم فيه الأجل عند أكثر أهل العلم.
(ق) عن ابن عباس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر العام والعامين فقال لهم: «من أسلف في تمر ففي كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم» وقوله تعالى: {فاكتبوه} أي اكتبوا الدين الذي تداينتم به بيعاً كان ذلك أو سلماً أو قرضاً واختلفوا في هذه الكتابة فقيل: هي واجبة وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري وقيل الأمر محمول على الندب الاستحباب فإن ترك فلا بأس وهو قول جمهور العلماء وقيل بل كانت الكتابة والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ بقوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته} وهو قول الحسن والشعبي والحكم بن عيينة ثم بين الله تعالى كيفية الكتابة فقال تعالى: {وليكتب بينكم كاتب} أي ليكتب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب {بالعدل} أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخيره قيل إن فائدة الكتابة هي حفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة تعذر عليه طلب زيادة أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك تعذر عليه الجحود أو النقص من أصل الدين الذي عليه، فلما كانت هذه الفائدة من الكتابة أمر الله تعالى بها {ولا يأب} أي ولا يمتنع {كاتب أن يكتب} واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد فقيل بوجوبهما لأن ظاهر الكلام نهى عن الامتناع من الكتابة وإيجابها على كل كتاب فإذا طولب بالكتابة وتحمل الشهادة من هو من أهلهما وجب عليه ذلك.
وقيل: هو من فرض الكفاية وهو قول الشعبي فإن لم يوجد إلاّ واجد وجب عليه ذلك وقيل هو على الندب والاستحباب وذلك لأن الله تعالى لما علمه الكتابة وشرفه بها استحب له أن يكتب ليقضي حاجة أخيه المسلم ويشكر تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه وقيل: كانت الكتابة وتحمل الشهادة واجبتين على الكاتب والشاهد ثم نسخهما الله تعالى بقوله: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} {كما علمه الله} أي كما شرعه الله وأمر به {فليكتب} وذلك أن يكتب بحيث لا يزيد ولا ينقص ويكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ولا يخص أحد الخصمين بالاحتياط له دون الآخر، وأن يكون كل واحد منهما آمناً من أبطال حقه، وأن يكون ما يكتبه متفقاً عليه عند العلماء، وأن يحترز من الألفاظ التي يقع النزاع فيها وهذه الأمور لا تحصل إلاّ لمن هو فقيه عالم باللغة ومذاهب العلماء. {وليملل الذي عليه الحق} يعني أن المطلوب الذي عليه الحق يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الحق فيذكر قدره وجنسه وصفة الأجل ونحو ذلك. والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد {وليتق الله} ربه يعني المملي {ولا يبخس} أي ولا ينقص {منه} أي من الحق الذي وجب {شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً} أي جاهلاً بالإملاء وقيل هو الطفل الصغير. وقال الشافعي: السفيه هو المبذر المفسد لماله ودينه {أو ضعيفاً} يعني شيخاً كبيراً وقيل: هو ضعيف العقل لعته أو جنون {أو لا يستطيع أن يمل هو} يعني لخرس أو عمى أو عجمة في كلامه أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب أو يجهل بماله، وعليه فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم فلابد من أن يقوم غيرهم مقامهم وهو قوله تعالى: {فليملل وليه} يعني ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة المحجور عليهم لأنه مقامه في صحة الإقرار. وقال ابن عباس: أراد بالولي صاحب الدين يعني إن عجز الذي عليه الحق عن الإملاء فليملل صاحب الحق لأنه أعلم بحقه {بالعدل} أي بالصدق {واستشهدوا شهيدين} يعني وأشهدوا على حقوقكم شهيدين لأن المقصود من الكتابة هو الإشهاد {من رجالكم} يعني من أهل ملتكم يعني من المسلمين الأحرار دون العبيد والصبيان وهذا قول أكثر أهل العلم. وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد وحجة هذا القول أن قوله من رجالكم عام يتناول العبيد وغيرهم وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب، فإذا اجتمعت هذه الشرائط فيه كانت شهادته معتبرة. وحجة الجمهور العلماء ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فهذا نص يقتضي أن من تحمل شهادة وجب عليه الأداء إذا ما طولب بها والعبد ليس كذلك فإن السيد إذا لم يأذن له في ذلك حرم عليه الذهاب إلى الشهادة فوجب أن يكون العبد من أهل الشهادة {فإن لم يكونا رجلين} أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين {فرجل وامرأتان} أي فليشهد رجل وامرأتان، وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء مع الرجال جائزة في الأموال فيثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى أنه يجوز شهادة النساء مع الرجال في سائر الحقوق غير العقوبات، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلاّ برجلين عدلين، وذهب الشافعي إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والكبارة والثيوبة ونحوها تجوز شهادة رجل وامرأتين أو شهادة أربع نسوة.
واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة ولا مقبولة في العقوبات والحدود، وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} يعني من كان مرضياً عندكم في دينه وأمانته والشرائط المعتبرة في العدالة. وقبول الشهادة عشرة وهي: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة، وأن لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع عنه بها مضرة، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلظ والسهو، وأن لا يكون بينه وبين من شهد من عليه عداوة فشهادة الكافر مردودة لأن الكذاب لا تقبل شهادته. فالذي يكذب على الله أولى بأن ترد شهادته وجوز بعض أهل الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ولا تقبل شهادة العبيد وأجازها ابن شريح وابن سيرين وهو قول أنس ولا قول للمجنون معتبر على تصح شهادته. ولا تجوز شهادة الصبيان وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يجوز لأن الله تعالى قال: {ممن ترضون من الشهداء} والعدالة شرط وهو أن لا يكون الشاهد مقيماً على الكبائر مصراً على الصغائر والمروءة شرط وهي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهباة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر في نفسه شيئاً مما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب علم بذلك قلة مروءته وترد شهادته وانتفاء التهمة شرط فلا تقبل شهادة العدو على عدوه وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه لا في حق غيره ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وتقبل شهادته عليهما ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم ولا ظنين في ولاء ولا قرابة» قال الفزاري: القانع التابع، أخرجه الترمذي. قوله: لا تجوز شهادة خائن أراد بالخيانة الخيانة في الدين والمال والأمانة فإن من ضيع شيئاً من أوامر الله أو ارتكب شيئاً مما نهى الله عنه لا يكون عدلاً.
والغمر بكسر الغين الحقد والقانع هو السائل المستطعم وقيل: المنقطع إلى قوم يخدمهم فترد شهادته للتهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم والظنين بكسر الظاء المتهم. وقوله تعالى: {أن تضل إحداهما} أي تنسى إحدى المرأتين {فتذكر إحداهما الأخرى} لأن الغالب على طباع النساء النسيان فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى لو نسيت إحداهما تذكرهما الأخرى فتقول حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا فيحصل بذلك الذكرى. وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً والمعنى أن شهادتهما تصيرا كشهادة ذكر، والقول الأول أصح لأنه معطوف على تضل وهو النسيان. وقوله تعالى: {ولا يأب الشهادة إذا ما دعوا} يعني إذا دعوا لتحمل الشهادة وسماهم شهداء لأنهم يكونون شهداء وهذا أمر إيجاب عند بعضهم. وقال قوم: يجب إذا لم يكن غيره فإن كان غيره فهو مخير، وقيل: هو أمر ندب فهو مخير في جميع الأحوال. وقال بعضهم هذا في إقامة الشهادة وأدائها، ومعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا الأداء الشهادة التي تحملوها. وقيل: الآية في الأمرين جميعاً يعني في التحمل والأداء والإقامة إذا كان عارفاً. وقيل الشاهد بالخيار ما لم يشهد فإذا شهد وجب عليه الأداء {ولا تسأموا} أي ولا تملوا ولا تضجروا {أن تكتبوه} الضمير راجع إلى الحق أو الدين {صغيراً} كان {أو كبيراً} يعني قليلاً كان الحق أو الدين أو كثيراً {إلى أجله} يعني إلى محل الحق والدين {ذلكم} يعني ذلك الكتاب {أقسط عند الله} يعني أعدل عند الله لأنه أمر به واتباع أمره وأعدل من تركه. {وأقوم للشهادة} يعني أن الكتابة تذكر الشهود {وأدنى ألا ترتابوا} يعني وأحرى وأقرب إلى أن لا تشكوا في الشهادة {إلاّ أن تكون تجارة حاضرة} أي إلاّ أن تقع تجارة حاضرة يداً بيد {تديرونها بينكم} أي فيما بينكم ليس فيها أجل {فليس عليكم جناح} أي لا ضرر عليكم {أن لا تكتبوها} يعني التجارة الحاضرة، والتجارة تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء والزيادة بالأرباح، وإنما رخص الله تعالى في الكتابة والإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس، فلو كلفوا فيها الكتابة والإشهاد لشق ذلك عليهم، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتبايعين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلا حاجة إلى الكتابة والإشهاد {وأشهدوا إذا تبايعتم} يعني فيما جرت العادة بالإشهاد فيه. واختلفوا في هذا الأمر فقيل هو للوجوب فيجب أن يشهد في صغير الحق وكبيره ونقده ونسيئته وقيل: هو أمر ندب واستحباب وهو قول الجمهور. وقيل إنه منسوخ بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته}.
وقوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} هذا نهي عن المضارة وأصله يضارر بكسر الراء الأولى ومعناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب والشاهد فيأبى أن يشهد أو يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه فيضر صاحب الحق أو من عليه الحق، وكذلك الشاهد وقيل: أصله يضارر بفتح الراء الأولى ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب والشاهد وهما مشغولان فيقولان نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي: إن الله أمركما أن تجيبا إذا دعيتما ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهى عن مضارتهما، وأمر أن يطلب غيرهما {وإن تفعلوا} يعني ما نهيتم عنه من الضرار {فإنه فسوق بكم} أي معصية وخروج عن الأمر. {واتقوا الله} أي خافوا الله واحذروا فيما نهاكم عنه من المضارة وغيرها {ويعلمكم الله} يعني ما يكون إرشاداً لكم في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشاداً لكم في أمر الدين {والله بكل شيء عليم} يعني أن الله تعالى عليم بجميع مصالح عباده لا يخفى عليه شيء من ذلك.